كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



والتسخير- كما نعلم- هو منع الاختيار. وإذا ما سَخَّر الحق سبحانه شيئًا فلنعلم أنه مُنضبط ولا يتأتّى فيه اختلال، ولكن الكائن غير المُسخّر هو الذي يتأتى فيه الاختلال؛ ذلك أنه قد يسير على جَادَّة الصواب، أو قد يُخطيء.
وفي مسألة التسخير والاختيار تَعِب الفلاسفة في دراستها؛ وذهبت المذاهب الفلسفية- وخصوصًا في ألمانيا- إلى مذهبين اثنين ظاهرهما التعارض؛ ولكنهما يسيرانِ إلى غايةٍ واحدة وهي تبرير الإلحاد.
وكان من المقبول أن يكونَ مذهبٌ يُبرر الإلحاد، وأنْ يبررَ الآخرُ الإيمانَ، ولكن شاء فلاسفة المذهبين أنْ يُبرروا الإلحاد.
وقال فلاسفة أحد المذهبين: أنتم تقولون إن الكون تُديره قوة قادرة حكيمة؛ وأن كُلّ ما فيه منضبط بتصرفات محسوبة ودقيقة.
ولكن الواقع يقول: إن هناك بعضًا من المخالفات التي نراها في الكائنات، والمثل هو تلك الشذوذات التي في الإنسان- على سبيل المثال- فهناك القصير أكثر من اللازم؛ وهناك الطويل أكثر من اللازم؛ وهناك مَنْ يولد بعين واحدة؛ وهناك مَنْ يولد بذراع عاجز؛ ولو أن القوة التي تدير الكون حكيمة لَمَا ظهرتْ أمثال تلك الشذوذات.
ونرد على صاحب تلك النظرية قائلين: وإذا لم يكُنْ هناك إله، أتستطيع أن تقول نال الحكمة من وراء وجود تلك الشذوذات؟ فأنت تدفع الحكمة عن الخالق الذي نؤمن به؛ فهل تستطيع أنت إثباتَ الحكمة لغيره؟ طبعًا لن يستطيع أنْ يردَّ عليك؛ لأن كلامه مردود.
ثم نأتي للمدرسة المقابلة التي تقول: إن النظام الموجود بالكون يدل على أنه لا يوجد له خالق؛ فهو نظام ثابت آليّ؛ ولا يوجد إله قادر على أن يقلب آلية هذا الكون.
وهكذا كانت هاتان المدرستان مختلفتين؛ ومتعارضتين؛ ولكنهما يؤديان إلى الإلحاد.
ونرد على المدرستين قائلين: يا من تأخذ ثبات النظام دليلًا على وجود إله؛ فهذا الثبات موجود في الكون الأعلى. ويا من تأخذ الشذوذ دليلًا على وجود خالق؛ فهو موجود في الكائنات الأدنى؛ ولو حدث الشذوذ في الكائنات الأعلى لَفسدت السماوات والأرض.
وقد شاء الحق سبحانه أن يوجد الشذوذ لوجه في الأفراد؛ فواحد يكون شاذًا؛ والباقي الغالب يكون سليمًا.
وهكذا يكون الشذوذ في الأفراد غيرَ مانع لقضية وجود خالق أعلى، وإذا أردت ثبات النظام فانظر إلى الكون الأعلى؛ كي تعلم أنه لا يوجد للإنسان مَدْخل في هذا الأمر.
وهكذا نجد أن الحق سبحانه قد سخّر لنا الليل والنهار؛ وهما من الأعراض الناتجة عن تسخير الشمس والقمر؛ وكلًا من الشمس والقمر دائبين، يمشي كل منهما في حركته مشيًا لا تنقطع فيه رتابة العادة. ونضبط أوقاتنا على هذا النظام الرتيب الدقيق، فنحدد- على سبيل المثال- أوائل الفصول ومواسم الزراعة؛ ومواقيت الصلاة.
وإذا نظرتَ إلى أيِّ اختلال قد ينشأ من بعض الظواهر؛ فاعلم أن ذلك قد نشأ من تدخُّل الإنسان المُخْتار المُسْتخلفَ في الأرض؛ والمثال هو مشكلة ثُقْب طبقة الأوزون الموجودة في الغلاف الجوي، والتي قد نشأت من تجاربنا التي نلهث فيها من أجل تحسين حياتنا على الأرض.
ولكننا ننظر إلى التجربة بأفْق محدود، ونفصل النظرة الجزئية عن النظرة الكلية المطلوب منا أنْ ننظرَ بها لكُل ما يحيط بنا في الكون؛ فنتسبب بهذا اللهْث في التجارب في إفساد الكثير من أسرار حياتنا على الأرض؛ حتى بِتْنَا نشكو من اضطراب الجو بَرْدًا وصقيعًا؛ وحرًا فوق الاحتمال.
وذلك بتدخّل الإنسان المختار فيما لا يجب أنْ يتدخلَ فيه إلا بعد أن يدرسَ كل جوانبه. واقرأ إن شئت قول الحق سبحانه: {ظَهَرَ الفساد فِي البر والبحر بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي الناس...} [الروم: 41].
ولذلك لابُدَّ من دراسة المُقدّمات والنتائج جيدًا قبل أن نُضخِّم من تجاربنا التي قد تضر البشر؛ ولذلك أيضًا أقول: إن علينا أن ندرس الآثار الجانبية لكل اختراع علمي كي نحميَ البشر من سيئات تلك الآثار الجانبية.
ولنتذكر قول الحق سبحانه: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ...} [الإسراء: 36].
ولعل ما نعيش فيه من مُشْكِلات تتعلق بالجو والصحة هو نتيجة تدخُّلنا بغير علم مكتمل؛ وهذا يؤكد لنا حكمة الخالق الأعلى؛ ذلك أننا لمّا خرجنا بالمُخْترعات العلمية وانبهرنا بفائدتها السطحية؛ ظننا أن في ذلك مكسبًا كبيرًا؛ ولكنه كان وبالًا في بعض الأحيان نتيجة الآثار الجانبية.
ولذلك لم يَقُلِ الحق سبحانه: بما اكتسبت أيدي الناس بل قال: {بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي الناس} [الروم: 41].
وفي الآية نحن بصدد خواطرنا عنها يقول الحق سبحانه: {وَسَخَّر لَكُمُ الشمس والقمر دَائِبَينَ وَسَخَّرَ لَكُمُ الليل والنهار} [إبراهيم: 33].
وهكذا نعلم أن تعاقب ظهور الشمس والقمر؛ يُسبِّب تعاقبَ مجيء الليل والنهار.
ولا يعني ظهور الشمس وسطوعها أن القمر غير موجود؛ فهو موجود، ولكن ضوء الشمس المُبهِر يمنعك من أنْ تراه، ولكن هناك أوقات يمكنك أن ترى فيها الشمس والقمر معًا.
أما الليل والنهار فهما يتتابعان كل منهما خَلْف الآخر. والحق سبحانه هو القائل: {وَهُوَ الذي جَعَلَ الليل والنهار خِلْفَةً...} [الفرقان: 62].
أي: أنهما لا يأتيان معًا أبدًا؛ فالليل في بلد ما يقابله نهار في بلد آخر.
وهكذا أثبتَ لنا الدأبَ في الحركة؛ فكُلٌّ منهما يأتي عَقِب الآخر؛ وقد جعل الحق سبحانه ذلك من أول لحظة في الخَلْق؛ وكانا لحظة الوجود خِلفْة، كل منهما يأتي من بعد الآخر؛ فكأن الكون حين خلقه الله؛ وجعل الشمس في مواجهة الأرض، صار الجزء المواجه للشمس نهارًا؛ والجزء غير المواجه لها صار ليلًا.
ثم دارت الأرض؛ ليأتي الجزء الذي كان غير مُواجِه للشمس؛ في مواجهتها؛ فصار ليلًا، وذهب الجزء الذي كان في مواجهتها، ليكون مكان الجزء الآخر فصار ليلًا، وهكذا شاء سبحانه أن يكون كل منهما خَلْف الآخر.
وهكذا تكلم الحق سبحانه عن حَصْر بعضٍ من نعمة الكلية علينا نحن العباد، سماء، وأرض، وماء ينزل، وثمرات تنبت من الأرض، وكذلك سخَّر لنا الشمس والقمر، والليل والنهار، وهذا ما يُسمَّى تعديد لبعض النعم.
ونجد واحدًا من الصالحين يقول عن نعم الله أَعد منها ولا أعددها. فكأن الله ينبهنا إلى أصول النظام الكوني الأعلى، ثم فتح المجالِ لِنعَمٍ أخرى لن يستطيع أحد أنْ يُحصِيها.
لذلك يقول سبحانه من بعد ذلك: {وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ...}.
نعم، أعطانا الحق سبحانه مما نسأل وقبل أن نسأل، وأعدَّ الكون لنَا من قبل أنْ نوجد. إذن: فسبحانه قد أعطانا من قبل أنْ نسألَ؛ وسبقت النعمة وجود آدم عليه السلام، واستقبل الكونُ آدم، وهو مُعَدٌّ لاستقباله.
وإذا نظرتَ للفرد مِنّا ستجد أن نِعَم الله عليه قد سبقتْ من قبل أن نعرف كيف نسأله، والمثل هو الجنين في بطن أمه.
وهنا قال الحق سبحانه: {وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ...} [إبراهيم: 34].
يعني: أنه قد أعطاك ما تسأله وما لم تسأله، نطقت به أو لم تنطق، ولو بحديث النفس أو خواطر خافية، وأنك قد تقترح وتطلب شيئًا فهو يعطيه لك.
وقد يسأل البعض من باب الرغبة في التحدي- ولله المثل الأعلى- نجد بعض البشر مِمَّنْ أفاء الله عليهم بجزيل نعمه؛ ويقول الواحد منهم: قُلْ لي ماذا تطلب؟
وقد حدث معي ذلك ونحن في ضيافة واحد مِمَّنْ أكرمهم الله بكريم عطائه، وكنا في رحلة صحراوية بالمملكة العربية السعودية، وقال لي: أطلب أي شيء وستجده بإذن الله حاضرًا. وفكرتُ في أن أطلب ما لا يمكن أن يوجدَ معه، وقلت: أريد خيطًا وإبرة، فما كان ردّه إلا وهل تريدها فتلة بيضاء أم حمراء؟.
وإذا كان هذا يحدث من البشر؛ فما بالُنَا بقدرة الله على العطاء؟ ومن حكمة الله سبحانه أنه قال: {وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ...} [إبراهيم: 34].
ذلك أن وراء كل عطاءٍ حكمةً، ووراء كل مَنْع حكمة أيضًا، فالمنع من الله عين العطاء، فالحقّ سبحانه مُنزَّه عن أن يكون مُوظّفًا عندك، كما أن الحق سبحانه قد قال: {وَيَدْعُ الإنسان بالشر دُعَاءَهُ بالخير...} [الإسراء: 11].
ولذلك قال: {وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ...} [إبراهيم: 34].
أي: بعض مِمّا سألتموه، ذلك أن هناك أسئلة حمقاء لا يُجيبكم الله عليها؛ مثل قول أي امرأة يعاندها ابنها يسقيني نارك هذه السيدة؛ لو أذاقها الله نارَ افتقاد ابنها؛ ماذا سوف تفعل.
إذن: فمِنْ عظمته سبحانه أنْ أعطانا ما هو مُطابِق للحكمة؛ ومنَع عنّا غَيْر المطابق لحكمته سبحانه، فالعطاء نعمة، والمَنْع نعمة أيضًا، ولو نظر كُلٌّ منا لعطاء السَّلْب؛ لَوجد فيه نعمًا كثيرة.
ويقول سبحانه: {سَأُوْرِيكُمْ آيَاتِي فَلاَ تَسْتَعْجِلُونِ} [الأنبياء: 37].
لذلك فلا يقولن أحدٌ: قد دعوتُ ربي ولم يَستجِب لي وعلى الإنسان أن يتذكَّر قَوْل الحق سبحانه: {وَيَدْعُ الإنسان بالشر دُعَاءَهُ بالخير وَكَانَ الإنسان عَجُولًا} [الإسراء: 11].
فهو سبحانه مَنْ يملك حكمة العطاء وحكمة المنع. ولا أحدَ مِنّا يستطيع أنْ يعُدّ نِعَم الله. والعَدُّ- كما نعلم- هو حَصْرٌ لمفردات جَمْع أو جزئيات كُلٍّ. ويعلم أهل العلم بالمنطق- ونسميهم المَنَاطِقة- أن هناك كُليّ يقابله جُزئيّ، وهناك كُل يقابله جزء.
والمَثل على الكُليّ الإنسان؛ حيث إننا جميعًا مُكونّين من عناصر متشابهة؛ ومفرد البشر يختلف باختلاف الأسماء؛ أما ما يُسمَّى كل فالمثَل عليه هو الكُرسي، وهو مُكّون من مواد مختلفة كالخشب والمسامير والغِرَاء، ولا يمكن أن نطلق على الخشب فقط كلمة كرسي؛ وكذلك لا نستطيع أن نُسمِّي المسامير بأنها كراسي.
وعلى هذا نكون قد عرفنا أن حقيقة الكُلّي أن مفرداته متطابقة؛ وإن اختلفت أسماؤها، لكن حقيقة الكُلِّ أن مفرداته غير متشابهة، وتختلف في حقيقتها.
وإذا أردتَ أنْ تُحصِي الكُليّ فأنت تنطق أسماء الأفراد كأن تقول: محمد وأحمد وعلي؛ وهذا ما يُسمى عدًا، وهكذا نفهم أن العَدَّ هو إحصاءُ جزئيات الكلي، أو إحصاء أجزاء الكُلِّ.
ونعلم أنهم قد سَمَّوْا العَدَّ إحصاءً؛ لأنهم كانوا يعدُّون الأشياء قديمًا بالحصَى؛ وأُطلِقت كلمة الإحصاء على مُطْلق العَدِّ حسابًا للأصل، وعرف عدد أجزاء الكلي أو الكل.
وكان الإنسان في العصور القديمة يَعُد- على سبيل المثال- إلى رقم مائة، ثم يحسب كل مائة بحصاة واحدة؛ فإذا تجمّع لديه عَشْر حصوات عرف أن العدد قد صار ألفًا، ومن هنا جاءت كلمة الإحصاء، وفي كثير من أمور عصرنا المتقدم؛ ما زِلْنا نُسمّي بعض الأشياء بمُسمّيات قديمة؛ فنحسب قوة السيارة بقوة الحصان.
وأنت إذا نظرتَ إلى قول الحق سبحانه: {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ الله لاَ تُحْصُوهَا...} [إبراهيم: 34].
ستجد الكثير من المعاني، ولكن مَنْ يحاولون التصيُّد للقرآن يقولون: إن هذا أمر غَيْر دقيق؛ فما دام قد حدث العَدّ؛ فكيف لايتم الإحصاء؟ وهؤلاء ينسوْنَ أن المقصود هنا ليس العدّ في ذاته؛ ولكن المقصود هو إرادة العدِّ.
ولو وُجِدت الإرادة فليس هناك قدرة على استيعاب نعم الله، ومن هنا لا نرى تعارضًا في آيات الله، وإنما هو نسق متكامل، فأنت لا تُقبل على عَدِّ أمر إلا إذا كان غالبُ الظن أنك قادرٌ على العَدِّ، وذلك إذا كان في إمكان البشر، ولكن نعم الله فوق طاقة مقدور البشر.
والمثَل أيضًا على مسألة إرادة الفعل يمكن أن نجده في قوله الحق: {يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصلاة فاغسلوا وُجُوهَكُمْ...} [المائدة: 6].
ونحن لا نغسل وجوهنا لحظة أن نقوم بالصلاة؛ ولكننا نغسلها ونستكمل خطوات الوضوء حين يُؤذّن المؤذن ونمتلك إرادة الصلاة، فكأن القول هنا يعني: إذا أردتُم القيام إلى الصلاة فافعلوا كذا وكذا.
ونعلم أن ذِكْر الشيء بسببه كأنه هو؛ ولذلك يُقال: إذا كان الآذان قد أذّن في المسجد؛ وأنت خارج من منزلك بقصد الصلاة؛ فلا تجري لتلحق بالإمام وتُدرك الصلاة؛ لأنك في صلاة من لحظة أنْ توضأْتَ وخرجتَ من بيتك للصلاة؛ وإياك أنْ تفعلَ حركة تتناقض مع الصلاة، وادخل المسجد بسكينة ووقار لتؤدي الصلاة مع الإمام.
وحين نتأمل قول الحق سبحانه: {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ الله لاَ تُحْصُوهَا..} [إبراهيم: 34].
ستجد أن العادة في اللغة هي استعمال إن في حالة الأمر المشكوك فيه، أما الأمر المتُيقّن فنحن نستخدم إذا مثل قوله الحق: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ الله والفتح} [النصر: 1].
وقد جاء الحق سبحانه هنا بأسلوب الشك حين قال: {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ الله لاَ تُحْصُوهَا..} [إبراهيم: 34].
ذلك أن العاقل يعلم مُقدّمًا أنه سيعجز عن إحصاء نِعَم الله. وكلنا يعلم أن هناك علمًا اسمه الإحصاء وله أقسام جامعية متخصصة.
وعلى الرغم من التقدم وصناعة الحاسب الآلي الكمبيوتر لم يستطع أحدٌ ولم يُقبِل أحدٌ على إحصاء نِعَم الله في الكون، ذلك أن العدَّ والإحصاء يقتضي كُليًّا له أفراد، أو كُلًا له أجزاء.
وأنت إنْ نظرتَ إلى أيّ نعمة من نعم الله؛ قد تظنها نعمة واحدة؛ ولكنك إنْ فصَّلْتَ فيها ستجدها نِعَمًا مُتعدِّدة وشتّى، وهكذا لا يوجد تناقض في قوله الحق: {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ الله لاَ تُحْصُوهَا..} [إبراهيم: 34].
وأنت إنْ أخذتَ نعمة المياه ستجدها نِعَمًا متعددة؛ فهي مُكونّة من عناصر، كل عنصر فيها نعمة؛ وإن أَخذتَ نعمة الأرض ستجد فيها نِعَمًا كثيرة مطمورة، وهكذا تكون كل نعمة من الله مطمور فيها نِعمَ متعددة، ولا تُحْصَى.
وحين تنظر في قول الحق سبحانه: {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ الله لاَ تُحْصُوهَا..} [إبراهيم: 34].
تجد ثلاثة عناصر؛ هي المُنعِم؛ والنعمة التي حكَم الحق سبحانه أنك لن تحصيها، وأن خَلْقه لَم يضعوا أنوفهم في أنْ يعدّوا تلك النعمة، فهي لا تحصى لأنها ليست مظنّة الإحصاء؛ ولا يقبل عاقلٌ أن يحصيها.
والعنصر الثالث هو المُنْعَم عليه، وهو الإنسان الذي قد يعجز عن إحصاء نعم رئيسه من البشر عليه- فما بالك بنعم الله التي لا تحصى، وكمالاته التي لا تُحدّ، وعطائه الذي لا ينفد؟ ولله المثل الأعلى، فهو المنزّه عن المثل.
ثم يأتي قول الحق سبحانه: {إِنَّ الإنسان لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} [إبراهيم: 34].
وهنا في سورة إبراهيم نجد قوله الحق مبينًا ظلم الإنسان لنفسه وكفره بالنعمة، وفي كفره للنعمة كفر بالمنعم يقول سبحانه وتعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين بَدَّلُواْ نِعْمَةَ الله كُفْرًا وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ البوار جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ القرار} [إبراهيم: 28-29].
وهؤلاء هم مَنِ ارتكبوا مظالم بالنسبة لعقيدة الوحدانية والإيمان بالله، والإنسان هو المُنْعَم عليه؛ وما كان يصحّ أن يرى كل تلك النعم ثم يكفر بها، وكان من العدل أن يعطي الحق لصاحبه، ولكن بعضًا من البشر بدَّلوا نعمة الله كفرًا؛ وهكذا صاروا مِمَّنْ يُطلَق على كل منهم أنه ظلوم في الحكم؛ وأنه كفّار؛ لجحوده بالنعمة ونكرانه عطاء الخالق للمخلوق.
والظلم كما نعرف هو أن تنقل الحق من صاحبه إلى غير صاحبه؛ وإنْ لم تؤمن بالله تكون قد أخذتَ حق الإله في الوجود، وإنْ كنتَ تؤمن بشركاء؛ فأنت تنقل بذلك حقًا من الله إلى غيره وهذا ظلم القمة.
وانظر إلى قول الحق سبحانه في سورة النحل: {وَسَخَّرَ لَكُمُ الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الأرض مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ وَهُوَ الذي سَخَّرَ البحر لِتَأْكُلُواْ مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُواْ مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الفلك مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ وألقى فِي الأرض رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ وَعَلامَاتٍ وبالنجم هُمْ يَهْتَدُونَ أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ الله لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الله لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} [النحل: 12-18].
فهل هناك إرادة أو قدرة تستطيع أن تحصي عطاءات الله التي فوق العَدِّ والحدِّ؟ ففي الآيات السابقة وغيرها إعجاز وعجز، وما دام هناك عجز فالكمال عنده لا يتناهى.
إن بعضًا مِمَّنْ يستدركون على القرآن يقولون: كيف يقول القرآن مرة:
{وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ الله لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإنسان لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} [إبراهيم: 34].
ثم يقول في آية أخرى: {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ الله لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الله لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} [النحل: 18].
ونردُّ على هؤلاء: أنتم لم تنظروا إلى السياق الذي جاء في كل آية، وعَمِيَتْ بصيرتكم عن معرفة أن سياقَ الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها قد جاء فيها ذِكْر النِّعم وذكر الجحود والكفران بالنعم؛ وهذا ناشىء عن ظُلْم الإنسان لنفسه بالظُّلْم العظيم.
وفي آية أخرى سورة النحل جاء بِذكْر النعم، ورغم ظُلْمنا إلا أن رحمته سبحانه وَسِعَتْنا، ولم يمنع عنَّا ما أسبغه علينا من نعم، وكأنه سبحانه يُوضِّح لنا: إياكم أنْ تستحُوا أنْ تسألوني شيئًا؛ وإنْ كنتم قد ظلمتُم وكفرتُم في أشياء، فظُلْمكم يقابله غفران منّى، وكافريتكم يقابلها منى رحمة، وهكذا لا يوجد تعارضٌ بين الآيتين؛ بل كُل تذييل لكل آية مناسبٌ لها، ففي الآية الأولى يعاملنا الله بعدله، وفي الآية الثانية يعاملنا الله بفضله.
ونلحظ أن الحق سبحانه قد قال هنا: {إِنَّ الإنسان لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} [إبراهيم: 34].
ونعلم أن هناك أناسًا قد آمنوا بالله وبنعمه، ويشكرون الله عليها، فكيف يَصِف الحق سبحانه الإنسان بأنه ظَلوم كفَّار؟
ونقول: إن كلمة إنسان إذا أُطلِقتْ من غير استثناء فهي تنصرف إلى الخُسْران والحياة بلا منهج؛ ودون التفات للتفكير في الكون.
والحق سبحانه حين أراد أن يُوضِّح لنا ذلك قال: {والعصر إِنَّ الإنسان لَفِى خُسْرٍ} [العصر: 1-2].
ولذلك جاء سبحانه بالاستثناء بعدها، فقال: {إِلاَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات وَتَوَاصَوْاْ بالحق وَتَوَاصَوْاْ بالصبر} [العصر: 3]. اهـ.